في الزاوية الجنوبية الغربية لمحافظة تعز، حيث تتداخل التضاريس الجغرافية القاسية مع تعقيدات البنية القبلية، تبرز مديرية الوازعية كصخرة صلبة في طريق مشروع إعادة تشكيل الخارطة الأمنية والعسكرية لقوات طارق صالح في الساحل الغربي لليمن.
الأحداث التي شهدتها المديرية خلال الأيام الماضية، من توترات بين القوات التابعة لعضو مجلس القيادة الرئاسي طارق صالح، ومسلحين قبليين يتبعون الشيخ أحمد سالم حيدر، هي قبل أن تكون خلافًا حول توزيع المساعدات، ناتجة عن صراع عميق تتداخل فيه الجغرافيا مع الإرث القبلي بالإضافة إلى خطوط التهريب في المديرية، وقبل كل ذلك حسابات النفوذ الإقليمية والدولية بالقُرب من باب المندب.
يحاول هذا التحليل تقديم قراءة لما يجري في الوازعية، من خلال تفسير العلاقة المتوترة بين بندقية القبيلة والآلة العسكرية، وما يمكن أن يترتب من تداعيات على استقرار الساحل الغربي.
جغرافيا حاكمة
لفهم ما يجري اليوم، يجب العودة إلى تفاصيل الجغرافيا، فالوازعية تختلف عن شريط الساحل الغربي (المخا، الخوخة، وذوباب) ذات الطبيعة المنبسطة والمجتمعات الساحلية التي تميل تاريخيًا للمدنية والسلم وتسهُل السيطرة عليها عسكريًا وأمنيًا.
على النقيض، تمثل الوازعية عمقًا استراتيجيًا وعرًا، فهي مديرية جبلية تشكل حزامًا أمنيًا خلفيًا للمخا مركز المقاومة الوطنية، وهذه الطبيعة الجغرافية جعلت منها تاريخيًا منطقة عصية على التطويع السهل وملاذاً للتحركات غير النظامية، وهذا يعني أن السيطرة على منطقتي "الرواجل وجبال المشاولة" مثلاً ليست فقط لتأمين مجموعة قرى، وإنما لتأمين ظهر الساحل الغربي بأكمله.
لذلك تنظر قوات المقاومة الوطنية إلى الوازعية بقلق دائم، فهي تدرك أن أي اختلال أمني في هذه المرتفعات يهدد بشكل مباشر استقرار المخا ومشروعها السياسي والعسكري.
كما أن المجتمع في الوازعية هو قبلي بامتياز، والسلاح هناك جزء من الهوية الشخصية، وعامل أساسي من أدوات البقاء في بيئة تفتقر للخدمات المركزية منذ عقود.
وقبائل الوازعية على رأسها المشاولة، تمتلك إرثًا قتاليًا تاريخيًا، وقد انخرط معظم أبنائها في الحرب ضد الحوثيين مبكرًا، وتوزعوا على مختلف التشكيلات (الجيش الوطني، ألوية العمالقة، المقاومة الوطنية، ومؤخرًا درع الوطن)، وهذا التنوع في الولاءات العسكرية خلق فائض قوة داخل القبيلة.
والخلفية القبلية هنا تلعب دور المحرك للأحداث، لأنه عندما تحركت القوات الأمنية ضد الشيخ أحمد سالم حيدر، لم تنظر القبيلة للموضوع من زاوية ملاحقة متهم بالتقطع والنهب، بل نظرت إليه من منظور اقتحام القرى والتفتيش والانتشار أمام المنازل، وهو ما فُسر في العرف القبلي لديهم كإهانة جماعية ومحاولة لكسر شوكة القبيلة أو ما يسمى بالدارج محاولة "التركيع".
هذا التفسير هو الذي دفع مسلحين لا تربطهم مصالح مباشرة مع حيدر للوقوف بجانبه، ليس حباً فيه وإنما نكاية فيما يعتبرونه تغولاً من سلطة المقاومة الوطنية في المخا.
مصالح متشابكة
يبرز اسم أحمد سالم حيدر بوصفه نموذج لحالة تشابك النفوذ المحلي مع حالة الفوضى التي تعيشها مديرية الوازعية، فالرجل نتاج مباشر لبيئة اجتماعية وسياسية معقدة جعلت من شخصيته نقطة التقاء لمصالح متداخلة وأدوار رمادية متعلقة بالتهريب مع شخصيات أخرى.
ينحدر حيدر من أسرة تمتلك خلفية أمنية وسياسية، فوالده كان ضابطًا في الأمن السياسي وقياديًا في حزب المؤتمر الشعبي العام، وهو ما منح الابن إرثًا من العلاقات والنفوذ يتجاوز حجمه الطبيعي.
على هذا الأساس، توسّع نشاطه في مجالات التهريب والاتجار بالسلاح، وهي أنشطة رائجة في المناطق الوعرة والحدودية، وترافق ذلك مع ارتباطات تجارية وعلاقات سابقة جمعته بقيادات داخل المقاومة الوطنية، ما جعله جزءًا من شبكة مصالح قائمة، وليست شخصية هامشية كما قد تبدو.
هذا الخليط من الخلفية والنفوذ الاقتصادي ترافق مع شخصية اندفاعية يصعب ضبطها، وفق توصيفات محليين تحدثوا لـ"المجهر"، الأمر الذي جعل من تحركاته ذات طابع متقلب وقابل للاشتعال في أي لحظة.
ويظهر ذلك في حادثة الاستيلاء على أجهزة ومعدات وهواتف ومبالغ مالية تابعة لـ"الوكالة السبتية للتنمية والإغاثة (ADRA)". مستثمرًا حالة الاحتقان الشعبي تجاه فساد المنظمات افتراضًا.
وفي تذمر السكان من تواطؤ السلطات المحلية، وعلى رأسها مدير المديرية علي الظرافي المحسوب على طارق صالح، قدم حيدر نفسه كمدافع عن حقوق الوازعية في وجه هذه القوة للحصول على قدر من التعاطف والغطاء القبلي، رغم الطابع الإجرامي لما أقدم عليه.
تراكمات سابقة
ما شهدته الوازعية نتيجة لتراكمات ظلّت تتصاعد على مدى سنوات حتى وصلت إلى هذه الحالة، فالعلاقة بين أبناء الوازعية وقيادة الساحل الغربي تشهد فجوة ثقة تتسع باستمرار، تغذيها مشاعر التهميش وغياب التمثيل وضعف الخدمات، إلى جانب إشكالات السلطة المزدوجة بين تعز والساحل.
فعلى الرغم من الدور المحوري لأبناء الوازعية في معارك تحرير الساحل، يشعر كثيرون منهم بأنهم تعرضوا لعملية إقصاء ممنهجة، مقابل غياب شبه تام لمشاريع "الخلية الإنسانية" مقارنة بمديريات أخرى حظيت بتمويل واسع مثل المخا والحوطة والخوخة.
يتوازى ذلك مع وضع إداري معقد تُدار فيه الوازعية وفق ثنائية متناقضة، فهي تتبع محافظة تعز إداريًا، لكنها أمنيًا وعسكريًا تخضع للمقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح وقطاع أمن الساحل الذي يقوده العميد مجاهد حزورة.
فالقطاع الأمني الذي يعمل خارج إطار هياكل وزارة الداخلية ويتبع القيادة العسكرية لطارق صالح، أحكم قبضته على مديريات الساحل وامتداداتها وأصبح الجهة الفعلية التي تُعين مديري الأمن هناك وتقود الحملات وتتخذ القرارات الأمنية والعسكرية دون تدخل مباشر من الجهات العليا مثل وزارتي الدفاع والداخلية التي لم تحرك ساكنًا مع ما حدث في الوازعية بخلاف البرقيات والتعميمات مع كل طارئ أمني أو عسكري أو سياسي في مدينة تعز باعتبارها متصلة مباشرة بالقيادة العُليا للسلطة التنفيذية.
هذا التداخل خلق فراغًا في الشرعية المؤسسية، إذ بات المواطن يشعر أن القرار الفعلي يأتي من "المخا" لا من مؤسسات تعز الرسمية المرتبطة بالجهات العليا، ومع هيمنة الطابع العسكري الصارم على المخا، غابت الاعتبارات الاجتماعية والقبلية التي تمثل جزءًا أساسيًا من تركيبة الوازعية، ما ولّد احتكاكات متكررة وتراكماً للغضب الشعبي.
وتفاقمت الأزمة أكثر مع ما يعتبره أبناء المنطقة نموذجاً للسلطة "البوليسية" تُمارسه المقاومة الوطنية عبر قطاع أمن الساحل، فالتسريبات التي خرجت من قائد الحملة العسكرية العميد مجاهد حزورة، ومنها قوله: "لن ننسحب حتى لو كلف الأمر ثلاثة ألوية"، عززت القناعة لدى القبائل بأن ما يجري لا يتعلق بتطبيق القانون بقدر ما هو محاولة لفرض الهيمنة وإعادة صياغة موازين القوة محليًا.
دوافع الحملة
على الجانب الأخر، تبدو خطوات قوات طارق صالح محكومة باعتبارات تتجاوز الحادثة ذاتها، فمن منظور هذه القيادة لا يتعلق الأمر بعملية ضبط أمنية روتينية، وإنما لحماية رصيد سياسي وإداري يتراكم لأكثر من خمس سنوات، وبذلك ظهر الرد الصارم في الوازعية كخيار لم يكن، بحسب رؤيتهم، قابلاً للاستبدال.
في مقدمة هذه الاعتبارات تأتي الرسائل الموجهة للمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية، ففي الوقت الذي يواجه فيه عمل المنظمات تضييقًا متصاعدًا في مناطق سيطرة الحوثيين، تعمل المخا على ترسيخ نفسها كبيئة آمنة وجاذبة لتلك المؤسسات.
لكن حادثة النهب التي تعرضت لها المنظمة، جعل من الضرورة إرسال رسالة واضحة للمجتمع الدولي بأن الساحل الغربي قادر على فرض سلطته، وأن الفوضى القبلية لن تكون بديلاً عنه.
إلى جانب ذلك، تستند قيادة المقاومة الوطنية إلى ما يشبه نظرية "الدومينو الأمنية"، فالتساهل في الوازعية قد يمتد أثره إلى بقية مناطق النفوذ، نجاح القبيلة في حماية مطلوب أو تحدي سلطة الأمن، يعني لجيرانها أن النموذج قابل للتكرار من الصبيحة إلى موزع وحتى الخوخة.
ويكتمل هذا التصور بدافع ثالث يرتبط بطبيعة الجغرافيا العسكرية، فالوازعية تمثّل خلفية للمخا، وعند أي اختلال في هذه المنطقة تتحرك الهواجس الأمنية فوراً، خصوصاً مع استمرار التهديد الحوثي على الحدود الشرقية المشتركة في مقبنة.
وهنا تُظهر قوات طارق صالح أن ما جرى في الوازعية هو اختبار حقيقي لمعادلة النفوذ وإمكانية الحفاظ على نموذج أمني تحاول ترسيخه في الساحل الغربي.
مخاوف متبادلة
في اللحظة التي تصاعد فيها التوتر داخل الوازعية، وجد الطرفان نفسيهما داخل دائرة من الهواجس المتبادلة، تُغذيها الذاكرة المحلية الحافلة بالانتهاكات من جهة، وتجارب الانفلات الأمني من جهة أخرى.
فعلى مستوى القبيلة، يسود الاعتقاد بأن ما يُقدَّم بوصفه عملاً أمنيًا قد يتحول سريعًا إلى ما يشبه وجود دائم، وترى القبائل أن دخول القوات إلى عمق القرى وتمركزها داخل المنازل يمثل تجاوزًا لحدود العرف، وانتهاكًا لحرمتها الاجتماعية، كما تلوح في أذهان الأهالي مخاوف من توظيف الغطاء الأمني لتصفية خصومات سياسية أو إعادة ترتيب موازين النفوذ داخل المديرية.
وفي المقابل، تتحرك المقاومة الوطنية داخل مساحة واسعة من المخاوف هي الأخرى، فصناع القرار العسكري ينظرون إلى الوازعية بوصفها منطقة شديدة الحساسية يمكن أن تتحول، مع أي تراخٍ، إلى مكون خارج سيطرة قوات طارق صالح، تتنازعه شخصيات نافذة ومهربون، ما يفتح الباب أمام فراغ أمني قد يستغله الحوثيون أو جماعات متطرفة، أو يصبح ممرًا لتهريب السلاح المضاد.
كما تخشى من أن يُفهم أي انسحاب تحت الضغط القبلي باعتباره تراجعًا يضرب هيبة القوات، ويشجع مناطق أخرى على سلوك المسار ذاته، الأمر الذي يهدد بنسف منظومة الردع التي تعتمد عليها في إدارة مناطق نفوذها في الساحل.
قرار الانسحاب
لم يحمل الانسحاب الذي نفذته القوات المشتركة مساء السبت، من عمق قرى الوازعية إلى مراكز المديرية كملعب المدينة وإدارة الأمن قبل أن تعاود الانتشار على امتداد الطريق الرئيسي، أي دلالة على نهاية الأزمة، فالمشهد بدا أقرب إلى إعادة حسابات فرضتها جملة من العوامل السياسية والعسكرية والاجتماعية، أكثر من كونه تراجعاً كاملاً أو قبولاً بالشروط القبلية.
كما أن الوساطة القبلية لعبت دورًا جوهريًا في منع الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة كانت ستجر المنطقة إلى فوضى يصعب احتواؤها، بعدما تحركت الوجاهات المحلية لامتصاص الاحتقان ومنع توسع الاشتباكات إلى عمق التجمعات السكانية.
وفي خلفية هذا القرار يحضر العامل العسكري بقوة، فخوض معركة داخل قرى مكتظة بالمدنيين، ضد قبائل تمتلك خبرة طويلة في حرب العصابات وتتحرك ضمن تضاريس وعرة تعرفها جيدًا، لا يمثل معركة رابحة لأي قوة نظامية، مهما كان تسليحها أو حجمها.
كما بدأت الصور المتداولة من داخل الوازعية، والتي تُظهر حالة من مخاوف السكان من التصعيد، وهو ما شكل ضغطًا على الرأي العام، وخلق موجة انتقادات لقوات المقاومة الوطنية في المناطق الخاضعة لنفوذها، وهو أمر يتناقض مع الخطاب الذي تسعى لتكريسه باعتبارها نموذجًا للانضباط وبناء الدولة.
لكن هذا الانسحاب لا يُقرأ بوصفه نهاية للمشهد، فكل المؤشرات تقود إلى خلاصة مفادها أن جمر التوتر لا يزال تحت الرماد، فالشخصية المحورية في الأزمة الشيخ أحمد سالم حيدر، ما يزال طليقًا وهذا يعني أن بذرة الخلاف لم تُقتلع بعد.
كما أن المطالب القبلية المتعلقة بتغيير مدير المديرية والتحقيق في ملف المساعدات ما تزال معلّقة، فيما يشعر قطاع أمن الساحل بأن هيبته قد تعرضت للاهتزاز، وهو عامل قد يدفعه للبحث عن خطوة تعيد التوازن بعد بدء الانسحاب
تابع المجهر نت على X
