يفرض البيان الصادر عن المركز الإعلامي لمحور طور الباحة، والمعنون بـ"إحباط مخطط إرهابي في التربة"، ضرورة إخضاعه لتحليل نقدي معمق يستقرئ مضامينه ودلالاته السياقية والزمنية، فضلاً عن فحص بنيته اللغوية والخطابية.
فالبيان الذي تجاوزت كلماته 850 كلمة، واتسم بسردية استخباراتية شديدة التفصيل، يكشف عن معلومات كان من المفترض أن تُدعم بحزمة من الأدلة الموثقة والقرائن الملموسة، غير أن غياب هذا البعد الإثباتي حتى اللحظة أفضى إلى حالة من الارتباك والتناقض الإجرائي، مما أثار تساؤلات جدية حول مصداقية المحتوى وموثوقية المصدر.
تميز البيان باعتماد منظومة مصطلحية عسكرية-أمنية صارمة، زاخرة بتعبيرات ذات حمولة دلالية خطيرة من قبيل: “مخطط إرهابي”، “خلايا نائمة”، “تفجيرات”، “إسقاط”، “تمويل”، “مسيرات”.
إذ يمكن تفهم توظيف هذه المفردات ضمن خطاب مؤسسة عسكرية - لا سياسية - إلا أن المعضلة الجوهرية تتجلى في الفجوة الواسعة بين ثقل الاتهامات الموجهة وانعدام الإسناد الوثائقي للأشخاص والكيانات المذكورين بالاسم، وهو ما يصبح أكثر إشكالية ويضاعف من خطورة استخدام هذا الخطاب الأمني الحاد دون أدلة قاطعة.
هذا الانفصال بين الادعاء والدليل يُحوّل الخطاب من وثيقة أمنية إلى نص إشكالي يهدد ما تبقى من رصيد الثقة، ويمثل تحولاً خطراً في طبيعة إدارة الصراع السياسي بتعز، الذي ظل مؤخراً أقرب إلى المناكفات السياسية منه إلى المواجهات الوجودية الحقيقية مع الحوثي.
من التعديل إلى النفي
صدر البيان مساء الثلاثاء، الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، متضمناً اتهامات بمخطط إرهابي واسع يستهدف ريف تعز، منسوباً إلى شخصيات بارزة من بينهم: صهيب سلطان البركاني (نجل رئيس مجلس النواب)، وماجد المذحجي (رئيس مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية)، والناشط المدني عبدالستار الشميري، مع الإشارة إلى الإرهابي أمجد خالد، وربط ذلك بتحركات موازية لجماعة الحوثي بهدف زعزعة استقرار ريف تعز وإسقاط التربة.
لكن اللافت أن البيان الذي صيغ بلغة قاطعة، سرعان ما تعرض لانهيار في تماسكه خلال فترة وجيزة، وشهد سلسلة من التصحيحات والتراجعات: تعديل في محتواه، نفي صدوره عن قيادات المحور، الإغلاق المؤقت لصفحة المحور ثم إعادة فتحها.
هذه التحركات الارتجالية كشفت بجلاء أن البيان لم يُبنَ على قاعدة صلبة من الأدلة أو التحقيقات الاستخباراتية المحكمة كما ادعى، مما يفتح المجال أمام تساؤلات محورية: هل كان البيان رسالة سياسية موجهة من قيادة المحور؟ أم أنه نتاج اختراق جديد للبنية الإعلامية والأمنية للمحور، يُضاف إلى سلسلة الاختراقات السابقة التي جسدها اختراق أمجد خالد لذات المربع العسكري؟ وما المسؤولية التي تتحملها القيادة عن هذا الخلل البنيوي المتكرر؟
تمثل هذه التساؤلات محور التحليل الذي نسعى من خلاله إلى تفكيك خطاب البيان، واستجلاء أبعاده السياسية والأمنية، وتقييم تداعياته على المشهد المحلي في تعز والثقة المجتمعية بالتشكيلات العسكرية.
جدل واسع
أثار البيان موجة جدل واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، رافقها مواقف رسمية وشعبية رافضة لما ورد فيه، في حين مارست أطراف أخرى ضغوط غير معلنة عبر قنوات خلفية، ما دفع المحور ذاته - أمام هذا التصاعد- إلى المسارعة في نشر ما يشبه بيان نفي، نقله موقع المدنية أونلاين الإخباري المقرّب من الجبولي.
بيان النفي الذي ورد على لسان رئيس عمليات محور طور الباحة العميد ركن طه عبدالله سعيد، كان حصيفًا قدر الإمكان، على الرغم من كونه يعد نقيضًا للبيان الأول، إلا أن هذا التصريح ظهر كمحاول لترميم صورة المحور من خلال التأكيد على أن قوات المحور وقياداته تعي صلاحياتها واختصاصاتها جيدا، ووظيفتها القتالية ومهامها المساندة، مشددا على أنها "لن تنشغل بالمناكفات البته".
ولفت العميد سعيد إلى أن اللواء الجبولي لم يشارك في أي اجتماع في مدينة التربة، لانشغاله في مهمة رسمية حينها، بتكليف من وزير الدفاع، موضحًا أنه لا يعني المحور "أي تناولات إعلامية غير رسمية"، ومؤكدًا التحقيق في الواقعة والتصرف بشأنها وفق القانون.
ردود سريعة
عقب صدور بيان محور طور الباحة، سارع محافظ تعز رئيس اللجنة الأمنية بالمحافظة نبيل شمسان إلى نفي مشاركته في أي اجتماع أمني بمديرية الشمايتين، مؤكدا أن ما صدر عن المحور من بيانات وأخبار لا تعبر عن الموقف الرسمي للجنة الأمنية.
وفي المجمل، فإن محور طور الباحة لا يخضع لمحافظ تعز فعليا، وإن ظل بينهما التنسيق المتبادل، حيث تشير مصادر مطلعة لـ"المجهر" أن آخر لقاء جمع الجبولي بشمسان كان في عزاء والدة مدير أمن مديرية الشمايتين العقيد عبدالله سعيد الوهباني، والذي أقيم في مدينة تعز مطلع نوفمبر الجاري.
أحزاب تعز، هي الأخرى أصدرت بيانا شديد اللهجة –غاب عنه الإصلاح– أدانت فيه ما وصفته بـ"البيان المشؤوم" الصادر عن محور طور الباحة، متهمةً إياه بالتحريض ضد شخصيات اجتماعية ومدنية في مدينة التربة والحجرية، والسعي لتقويض الفضاء السياسي والمدني في المحافظة.
في حين ندد بيان منسوب لتكتل يحمل اسم "المجلس الأعلى لأبناء الحجرية" ببيان محور طور الباحة مثمنا نفي المحافظ، ومعبرًا عن أسفه لما قال إنه "البيان المشحون بالحقد والكراهية، والمليء بالافتراءات التي تستهدف كبار الحجرية ومشائخها وقادتها، وتزرع بذور الفتنة في أوساط المجتمع".
أما مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية فقد ذهب في رده بعيدًا، بزعم أن البيان الذي أصدره محور طور الباحة وتضمن اسم رئيس المركز ماجد المذحجي، يأتي تتويجا لما أسماها "حملة تحريضية" يقودها ناشطون قال إنهم موالون للإصلاح.
وكان المركز ذاته قد أثار جدلا واسعا قبل أيام، عقب نشره افتتاحية حول مدينة تعز، جعل منها مركزا للانفلات الأمني والجريمة المنظمة –حد وصفه– الأمر الذي قوبل بموجة سخط واستنكار تجاه غياب الموضوعية في الطرح التي تبناها المركز، في تحيز وتحامل واضحين، وفق مراقبين.
يذكر أن تشكيل محور طور الباحة العسكري، يعود إلى يونيو/حزيران 2021؛ إذ أصدر الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي قرارا جمهوريًا حمل الرقم 45 لذات العام، وقضى بتشكيل المحور بقيادة العميد أبوبكر الجبولي، وضمن المنطقة العسكرية الرابعة.
وبعد تشكيل قوات المحور بقيادة الجبولي الذي يقود اللواء الرابع مشاه جبلي، مُنِح مسرح عمليات يتضمن أجزاء من محافظة لحج، ويمتد حتى الريف الجنوبي لمحافظة تعز، إذ تتضمن خطة انتشاره: طور الباحة، حيفان، المقاطرة، والشمايتين بما فيها مدينة التربة، وحتى بداية مديرية المعافر.
صعود مفاجئ
قبل مقتل إفتهان المشهري مديرة نظافة تعز في الثامن عشر من سبتمبر/ أيلول الماضي، لم يكن لنجل الشيخ سلطان البركاني (صهيب) أي حضور لافت على المستوى الاجتماعي في ريف تعز الجنوبي، ولم يكن اسمه مألوفًا في الأحاديث التي تضج بها منصات التواصل الاجتماعي على المستوى المحلي، لكن الحادثة دفعت بالرجل إلى الواجهة وبدأ يعرّف نفسه كشيخ قبلي له حضور ملحوظ في القضايا التي شهدتها المحافظة مؤخرًا.
هذا الصعود المفاجئ لصهيب البركاني، تزامن مع كتابات تصدرها ناشطون حول مواقف الرجل، لتبدو كإشادات مصطنعة ومعد لها مسبقًا، أضفى عليها بعض التأييد تصريح البركاني الأب في عزاء المشهري، إذ أشار لنجله كنائب له على المستوى الاجتماعي ليضمن بقاء ثقله وارتباطه بالناس في مناطق الحجرية وتعز ككل.
غير أن البركاني ونجله كغيرهم من الشخصيات التي برزت مؤخرا للبحث عن موضع قدم لها في مسقط رأسها بمحافظة تعز، في حين تركت أبناء المدينة يواجهون الانقلاب الحوثي لوحدهم ونأت بنفسها عن الانخراط المباشر في الحرب، ومن المفارقات أن الرجل عاود نشاطه من منزله الذي حرره الجيش الوطني في تعز فيما لا يزال منزله الآخر تحت سلطة الحوثيين يستخدم كمقر اجتماعات.
وعن ورود اسم صهيب في بيان محور طور الباحة، تشير مصادر "المجهر" إلى أن ذلك لم يكن عفويًا أو لتصفية حسابات شخصية، إذ ثبت قيام الرجل بالتحشيد في الحجرية وإقناع مشائخ ووجهاء الحجرية بنقل تجربة مخيم شارع جمال إلى التربة، تارة باسم قضية المشهري وأخرى باسم قضية المحامي عبدالرحمن النجاشي.
هذا السلوك، وفق المصادر، وإن كان إجراءا طبيعيا وحقًا مكتسبًا لكنه يفتح الباب على مصراعيه أمام فوضى جديدة قد تشهدها البوابة الجنوبية لمحافظة تعز، في ظل تنامي نشاط الخلايا الإرهابية التي تعمل بتنسيق كامل مع الحوثيين، وهو ما كشفته سابقا بوضوح قضية المدعو أمجد خالد.
المصادر، اعتبرت إشارة البيان للبركاني الابن ثم حذف اسمه لاحقا، رسالة مفادها أن السلطات العسكرية والأمنية لا تتساهل مع إجراءات ترى أنها تهدد الاستقرار الأمني أو توفر بيئة خصبة لتحركات معادية، في ظل الحديث عن تحركات لشن هجوم بهدف إطلاق سراح سجناء تم اعتقالهم سابقًا ضمن خلايا إرهابية.
ابتزاز مفضوح
تفيد المعلومات التي حصل عليها "المجهر" بأن ذكر اسم ماجد المذحجي رئيس مركز صنعاء للبحوث الاستراتيجية لم يكن على خلفية مواقفه وآرائه وتحليلاته للوضع الأمني في مدينة تعز فحسب، والتي كان آخرها افتتاحية أثارت ردود أفعال حادة ومنددة بانحياز الرجل وعدم موضوعيه طرحه.
وتؤكد المصادر أن المذحجي على خلاف مع السلطات الأمنية والعسكرية في تعز، وحتى محور طور الباحة، على خلفية اعتقال عدد من أقاربه في وقت سابق جنوبي المحافظة بعد ثبوت تورطهم في التعاون مع الحوثيين، وقيامهم بتنفيذ تفجيرات واستهداف قيادات عسكرية لصالح الجماعة.
أبرز هذه الأسماء، وسام أحمد سلام المذحجي، شيخ قبلي وشخصية اجتماعية معروفة، تم القبض عليه إلى جانب آخرين على ذمة تواصلهم مع الحوثيين، وورد أسمائهم ضمن الشبكة التي اغتالت الموظف الأممي مؤيد حميدي.
وتشير المصادر إلى أن ماجد المذحجي قاد جهودا حثيثة للإفراج عن وسام ورفاقه، ووصل به الأمر إلى التوسط لدى رئيس مجلس القيادة الرئاسي، في حين أسفرت جهوده عن الإفراج عن الشيخ وسام المذحجي بعد تواصل وتنسيق مستمر مع سلطات تعز والحكومة.
إلا أن ذلك، لم يمنع صدام المذحجي (شقيق وسام) من العودة مجددا للعمل والتعاون مع الحوثيين، ليتم بعدها احتجازه من قبل قوات الأمن الخاصة الوحدة الأمنية التي يتبعها، وهو ما اعتبره محور طور الباحة إخلال في اتفاقه مع ماجد المذحجي الذي وعد في احتواء أقاربه بعدم العودة للعمل مع الحوثي.
كما أن انحياز ماجد المذحجي في خطابه ومقالاته المتكررة –وفق المصادر– تنقل صورة سلبية عن تعز وتتهم السلطات بالوقوف خلف الجرائم والانتهاكات، ما يعد ابتزازا مفضوحا للضغط على السلطات لإطلاق سراح بقية أقاربه المتهمين، كونه يعتقد أنهم مظلومين والتهم الموجهة إليهم ملفقة.
تابع المجهر نت على X
