رمزية الدولة.. إنجاز مؤسسي وأداء أمني متقدم في تعز رغم غياب الدعم المركزي (تقرير خاص)

رمزية الدولة.. إنجاز مؤسسي وأداء أمني متقدم في تعز رغم غياب الدعم المركزي (تقرير خاص)

تقف محافظة تعز اليوم كأنها تُحاسَب على التزامها لا لتُكافأ عليه، ففي حين تتعامل محافظات محرّرة أخرى مع الإيرادات بعقلية النفوذ وأحيانا بالأنانية تجاه المركز، تواصل تعز رغم شح مواردها توريد ما تستطيع إلى البنك المركزي في عدن، لتبدو وكأنها تحاول إثبات أن الانضباط هو أساسها حتى في أسوأ الأحوال.

على الصعيد السياسي والإعلامي والاجتماعي، تُمثل تعز فضاءً حراً لكل النشاطات المتعلقة بذلك، حيث يتمتع الحراك الشبابي والمجتمعي والأحزاب السياسية بمساحة للتعبير والتظاهر والمطالبة.

لكن هذا النشاط يُقابل بتسيس القضايا وحرف مسارها نحو الابتزاز السياسي، حتى فيما يتعلق بالمطالبات المشروعة بالدعم العسكري أو الخدمات، بالمقابل تغيب هذه المساحات في بقية المحافظات سواء المحررة أو الخاضعة للحوثيين، حيث لا صوت للحراك المدني ولا مجال لمساءلة القيادات أو المطالبة بالتغيير.

ففي ببعض المحافظات المحررة تبرز ازدواجية المعايير في تطبيق السلطة المالية والإدارية، حيث تماطل ولم تُنفذ القرارات الرئاسية وتعميمات رئيس الوزراء، وتقدّم مبررات محلية لتعطيل التوريد أو تعديل السياسات المالية، بينما في تعز أي تجاوز صغير يُسجَّل كخرق للقانون، ويُصبح موضوعاً للتحريض السياسي والنقد الإعلامي الحاد. 

 

نموذج الدولة

 

أعطت تعز مساحة اختبار لمدى الامتثال لتطبيق قرارات المجلس الرئاسي المتعلقة بالإيرادات المحلية، فرغم محدودية مواردها وحصارها الممتد، تواصل تعز التوريد إلى البنك المركزي، ومع ذلك تُنتقد على كل تفصيل إداري وأمني، بينما يغيب أي حراك مماثل تجاه محافظات ترفض قرارات الدولة أو تتعامل مع المال العام كملكية خاصة.

تستطيع تعز أن تخلق وضعًا مثاليًا حتى في ظل المشهد المضطرب، ويُراد منها أن تطبق النظام دون أن تنال استحقاقاته، وأن تُحاسَب كأنها في ظل سلطة مستقرة، رغم غياب الدعم المركزي وضعف إيراداتها.

على المستوى السياسي، تبدو تعز المدينة اليمنية الوحيدة التي تتميز بحراك حزبي ومدني حقيقي داخل مناطق نفوذ الحكومة المعترف بها دوليًا، فكل القوى السياسية حاضرة وفاعلة، تنظم التظاهرات وتعبّر عن مواقفها بحرية، في حين تغيب المساحة ذاتها في بقية المحافظات، حيث يصعب بل يستحيل أن تشهد بعض المدن اليمنية اعتصامًا أو تظاهرة خارج الإطار المرسوم، كما يغيب المشهد السياسي تماما عن المحافظات الخاضعة لسيطرة الحوثيين، حيث تُكمم الأصوات ويُصادر الفضاء العام.

إعلاميًا كذلك، تشكّل تعز الاستثناء الوحيد في المشهد اليمني، من حيث الفضاء المفتوح لجميع القنوات والمنصات، من العربية والحدث وسكاي نيوز إلى اليمن اليوم والجمهورية ويمن شباب وسهيل وغيرها.

فيها يُمارس النقد والجدل بجرأة قلّ نظيرها، بينما تُغلق الأبواب في محافظات أخرى أمام أي صوت لا ينسجم مع المزاج المسيطر، والواقع أن ما يُتاح في تعز من حرية إعلامية لا يمكن تخيله في عدن أو المخا أو شبوة، حيث تتحكم القوى المحلية في المشهد وتُقصي المخالفين حتى من الوجود الميداني.

 

إنجازات ملموسة

 

رغم محدودية الإمكانات وغياب الدعم الكافي، تمتلك تعز واحدة من أكثر البُنى الأمنية تنظيمًا داخل المحافظات المحررة، وتحقق نتائج ميدانية تُقاس بالجهد لا بالموارد، فالأجهزة الأمنية تواجه تحديات مضاعفة بفعل الكثافة السكانية والتضاريس الجبلية المعقدة، ومع ذلك تبرز الأرقام لتكشف عن مستوى من الأداء يفوق ما يُنجز في محافظات تحظى بموارد ودعم أكبر.

وفقًا لتقرير إدارة التخطيط والإحصاء بشرطة المحافظة، بلغ إجمالي الجرائم المسجلة خلال الفصل الثالث من عام 2025م (1,329 جريمة)، تم ضبط 92% منها، وأُلقي القبض على 1,627 متهماً وأُحيلت قضاياهم إلى الجهات المختصة، وحققت إدارة البحث الجنائي وحدها نسبة ضبط بلغت 87% من إجمالي القضايا التي تعاملت معها، وهو معدل نادر في بيئة مضطربة ومثقلة بالتحديات الأمنية.

على غرار المشهد الأمني، يواصل القضاء في تعز أداءه في بيئة صعبة تعاني من ضعف الدعم وكثرة القضايا، لكنه يحقق مؤشرات إنجاز تُعد من الأعلى على مستوى البلاد.

وبحسب رئيس نيابة الاستئناف والمحامي العام في المحافظة القاضي محمد سلطان العسلي، فإن الجهاز القضائي شهد خلال السنوات الخمس الأخيرة تحسنًا تدريجيًا في الأداء، حيث بلغت نسبة إنجاز القضايا 82% عام 2023، وارتفعت إلى نحو 94% عام 2024، في حين وصلت نسبة التصرف في قضايا نيابة الاستئناف إلى 99%.

خلال عام 2024، عُرض على نيابة الاستئناف 1,128 قضية، جرى التصرف في 1,120 منها، بينما استُكملت القضايا المتبقية مطلع عام 2025، كما تم تنفيذ ما لا يقل عن 19 حكمًا بالإعدام والقصاص بين أبريل 2024 وسبتمبر 2025، بعد استكمال كافة الإجراءات القانونية والدستورية حتى المصادقة الرئاسية. وفقا للقاضي العسلي في تصريح للفضائية اليمنية.

وفي جانب ضبط الجناة، تشير الإحصاءات إلى أن الأجهزة الأمنية والقضائية تمكنت من القبض والتحقيق مع أكثر من 85% من المتهمين في جرائم القتل والقضايا الجسيمة، وهو معدل يفوق قدرات المحافظة المتاحة ويؤكد فاعلية التنسيق بين المؤسستين الأمنية والقضائية.

 

شحة الموارد

 

بينما تمتنع محافظات محررة عن التوريد الكامل للبنك المركزي أو تعمل خارج الوعاء المالي للدولة، تبقى تعز المدينة الوحيدة التي تورد إيراداتها بانتظام، رغم ضآلة مواردها في المناطق المحررة وضعف الدعم الحكومي.

يقول مدير عام الموارد المالية في محافظة تعز مهيوب الحبشي في حديثه لـ"المجهر"، إن المناطق الواقعة تحت سيطرة الانقلابيين الحوثيين بلغت إيراداتها لعام 2024 أكثر من 350 مليار ريال، في حين لم تتجاوز الإيرادات المحلية والمركزية في المناطق المحررة 40 مليار ريال فقط، منها 31 مليار مركزيًا وقرابة 9.7 مليار محليًا ومشتركًا. 

ويبين الحبشي أن الإيرادات المركزية الموردة من تعز إلى البنك المركزي خلال الأعوام من 2018 – 2024م بلغت نحو 98.85 مليار ريال، رغم أن أكثر من 70% من مصادر الدخل الضريبي للمحافظة تقع تحت سيطرة الحوثيين، الذين يتحصلون على ما يزيد عن 80% من إجمالي إيرادات تعز الكبرى.

ويضيف أن ميناء المخا رغم صغره النسبي، تورد إيراداته إلى البنك المركزي بعدن بإشراف مكتب جمارك تعز والسلطة المحلية، بينما بلغت الإيرادات المحلية لمدينة المخا نفسها 789 مليون ريال فقط.

أما الموارد المركزية، فتخضع لرقابة وزارة المالية والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، ما يجعل إدارة الموارد في تعز أكثر شفافية من مثيلاتها في محافظات أخرى.

ويحذر الحبشي من "أزمة مالية خانقة تهدد بتوقف أنشطة السلطة المحلية خلال الأشهر القادمة، بعد أن بلغ العجز في الموازنة أكثر من 3.7 مليار ريال"، وفقاً لحديثه عبر برنامج (بالمفتوح) على قناة الجمهورية.

 

أعباء عسكرية

 

على مدى أكثر من عشر سنوات، يخوض محور تعز العسكري حربًا مفتوحة ضد جماعة الحوثي في جبهات تمتد لأكثر من 360 كيلومترا، من دون أن يحظى بالدعم المالي أو اللوجستي الكافي من وزارة الدفاع أو الحكومة.

ورغم أن المحافظة تتحمل العبء الأكبر من المواجهة، فإنها تُترك شبه وحيدة بقدرات تشغيلية لا تتجاوز 10% من احتياجاتها الفعلية، فالاحتياجات التشغيلية الكاملة للمحور بما في ذلك التغذية والصيانة والوقود، تتجاوز 3 مليارات ريال شهريًا، لكن ما يُصرف فعليًا أقل بكثير من ذلك، مما انعكس على الجاهزية القتالية وتعطل جانب من أعمال الصيانة والتجهيز.

ومنذ بداية الحرب، قدّم جيش تعز أكثر من 6,000 شهيد، فيما تجاوز عدد الجرحى 18 ألفًا، بينهم 4,000 معاق دائمًا وأكثر من 5,500 حالة نشطة تحتاج إلى متابعة طبية مستمرة.

اللجنة الطبية العسكرية في محور تعز التي لم تحصل منذ تأسيسها على أي ميزانية تشغيلية رسمية، تعتمد على مبادرات محدودة ودعم غير منتظم لا يتجاوز 80 مليون ريال شهريًا، في حين تحتاج فعلياً إلى نحو 290 مليون ريال لتغطية تكاليف علاج وتأهيل الجرحى.

يُضاف إلى ذلك نحو 150 جريحًا في حالة حرجة يحتاجون للعلاج خارج البلاد بتكاليف تتراوح بين 10 إلى 15 ألف دولار للحالة الواحدة، وأكثر من 2,000 حالة تنتظر منذ مدة إجراء عمليات جراحية تخصصية داخل المحافظة.

ومع ذلك تُهاجَم المدينة حتى من بعض أبنائها، بسب رسوم محلية مضافة تُخصص لدعم الجيش والأمن ورعاية الجرحى، في حين لا تُثار أي ضجة حيال مناطق لا تورد شيئًا إطلاقًا ولا تلتزم بأي نظام مالي.

فالقيمة المضافة المفروضة على الجوازات والضرائب لا تمس الإيرادات الأساسية الموردة إلى البنك المركزي، وإنما تُحصّل كرسوم إضافية يتحملها المواطن لدعم مؤسسات الجيش والأمن والجرحى، في نموذج نادر من الشفافية المحلية.

 

ازدواجية السلطة

 

بينما تُنفَّذ القرارات الرئاسية في تعز بدقة واحترام للمسار المؤسسي، تتجاهلها محافظات أخرى محررة مثل المهرة، حيث وجه المحافظ محمد علي ياسر تعميما رسميا إلى مكاتب الجمارك (المكتب العام، شحن، وصرفيت)، يقضي بالاستمرار في الآلية المحلية القديمة لتوريد الإيرادات المركزية، بذريعة التزامات مالية تتعلق بتشغيل الكهرباء وتمويل مشاريع خدمية، مخالفًا بذلك قرار مجلس القيادة الرئاسي وخطة الإصلاحات الاقتصادية الشاملة.

لم يكتف المحافظ بذلك وشكّل لجنة خاصة لتخصيص نسبة 70% من الرسوم الجمركية وضريبة الأرباح التجارية لحسابات السلطة المحلية، إلى حين التفاهم مع الحكومة المركزية حسب تعقيبه، وهي خطوة فسّرها مراقبون بأنها تثبيت لسلطة مالية موازية خارج النظام الوطني.

هذه الواقعة دفعت رئيس الوزراء سالم بن بريك إلى مخاطبة مجلس القيادة الرئاسي بمخالفات محافظ المهرة بشأن الإصلاحات الاقتصادية، مشيرًا إلى أن استمرار مثل هذه الممارسات "يُقوّض هيبة الدولة ويُضعف الثقة الدولية بالإدارة المالية اليمنية".

في المقابل، عندما يتعلق الأمر بمحافظة تعز المعروفة بالتزامها المالي وتوريدها المنتظم للإيرادات، يكون الموقف الرسمي معاكسًا تمامًا، فحين وجه المحافظ نبيل شمسان مذكرة إلى رئيس مصلحة الهجرة والجوازات بشأن تعديل الرسوم القانونية بما يتوافق مع قرارات مجلس القيادة الرئاسي ومجلس الوزراء، جاء الرد حاسمًا من رئيس المصلحة اللواء محمد عبدالقادر الرملي، بأن المحافظ غير مخول بالتدخل في تحديد الرسوم، حيث أن صلاحياته تقتصر على الإشراف فقط.

ورغم ذلك، تمسكت السلطة المحلية في تعز بالامتثال للقانون، حيث خاطب المحافظ رئيس الوزراء مؤكدا أن مصلحة الجوازات تفرض رسومًا إضافية قدرها 2000 ريال على كل جواز سفر وتقتطع 200 ريال من الرسم القانوني دون سند رسمي، وطالب شمسان بتوجيه وزارة الداخلية لإلغاء تلك الرسوم، مشددا على أن أي تعديل يجب أن يصدر بقرار حكومي معلن وليس بتعميم إداري.

تبع ذلك تأكيد من مدير جوازات تعز العقيد صادق الدباني بتنفيذ قرارات المحافظ ومجلس الوزراء ضمن خطة الإصلاحات المالية، مشيراً إلى الالتزام بالتوجيهات الرسمية.

وفي السياق، أكد مدير شرطة السير في تعز العقيد عبدالله راجح، التزام إدارته بتحصيل الرسوم الرسمية فقط، تنفيذاً لقرارات مجلس القيادة الرئاسي الخاصة بالإصلاحات الاقتصادية.

 

امتثال يقابله الإهمال

 

الصحفي والمحلل الاقتصادي وفيق صالح، يقول أن تعز تكاد تكون المحافظة التي تسري عليها القرارات الحكومية دون أي صعوبات أو معوقات، كونها امتداد حقيقي للشرعية اليمنية التي وقفت أمام الانقلاب الحوثي على مؤسسات الدولة، مع التزام كامل بمهامها ومسؤولياتها تجاه الحكومة الشرعية.

وفي حديثه لـ"المجهر" لفت صالح إلى أن الموارد المالية للمحافظة شحيحة بسبب سيطرة الحوثيين على الجزء الأكبر من الإيرادات، ومع ذلك تلتزم تعز بتوريد الموارد السيادية إلى الأوعية الإيرادية العامة للدولة، في الوقت الذي تفتقد فيه إلى منظومة خدمات أساسية، ويعيش سكانها مستويات معيشية وتنموية متدهورة.

هذا الإهمال لا يقتصر على الجانب التنموي والخدمي، بل يمتد إلى البعد السياسي والعسكري، وفقاً للصحفي وفيق صالح. فالمدينة محاصرة وجبهات الحرب تحيط بها من كل اتجاه وتكلفة الحفاظ على الجاهزية الدفاعية هائلة، إلا أن الدعم الرسمي لا يصل إلا بنسبة ضئيلة، لتظل تعز تعتمد على جهودها الذاتية والإمكانيات المحلية لمواجهة آلة الحرب الحوثية والدفاع عن الدولة الشرعية.

كذلك، لم تحظ المحافظة بالمشاريع التنموية خلال السنوات الأخيرة، ما خلق فجوة عميقة من انعدام الثقة بالحكومة الشرعية، وأفرز حالة من الإحباط بين المواطنين والإدارات المحلية بالمحافظة.