أصبحت أحتاج أن أبدأ بمثل من خارج البلاد لأتمكن من الكلام والكتابة عن أنفسنا وعن أهلنا وعن مشاكلنا في اليمن لأتجنب تشنجات وانفعالات تضيع بداخلها الحجج والعقل والمنطق.
سقطت مدينة الفاشر المحاصرة منذ سنة ونصف، وسرح ذهني تلقائيا إلى مدينة تعز المحاصرة منذ ١٠ سنوات.
الآن، الإحتمال كبير لتقسيم السودان وانفصال شرق الوطن عن غربه إلى الأبد.
وسرح ذهني لاحتمال تقسيم الوطن في اليمن بين شمال وشرق وغرب ووسط وجنوب… وأيضا إلى الأبد.
**
أولا: تأملات في سقوط مدينة رئيسية
**
الفاشر وتعز، هن مدنا رئيسية في السودان واليمن
قد سقطت الفاشر وسقط الكثير من تعز.
ونحن سوف نتأمل في التشابه بين هاتين السقطتين.
١- عجز المركز
*
الفاشر وتعز، تمثلان عجز الدولة المركزية عن حماية مدينة رئيسية — وهو رمز لانهيار السلطة الوطنية.
٢- عامل الزمن
*
في الحالتين، الزمن الطويل للحصار يعني أن الحرب لم تعد بين جيشين، بل بين دويلات ميدانية متعايشة في واقع التجزئة.
٣- تآكل فكرة الوطن
*
المقارنة أيضًا تُبرز نقطة مهمة: في الحصار الطويل، تتآكل فكرة الوطن أولا قبل أن يسقط المكان عسكريا
٤- تحلل الأطراف
*
تعز والفاشر ليستا مجرد مدينتين محاصرتين، بل مؤشرين على تحلل “المركز”.
حين تفقد الدولة القدرة على فرض السيادة في أطرافها، تبدأ الأطراف بخلق مراكزها الخاصة، وهذه هي الشرارة الأولى للتشرذم والتقسيم الفعلي، لا الرمزي.
**
ثانيا: بعد السقوط، يأتي التقسيم
***
*حميدتي، تاجر الإبل:
لا يستطيع "الجنرال" حميدتي الإستيلاء على بقية السودان ولا يستطيع الجنرال البرهان استعادة الفاشر؛
…. وهذا يعني شرذمة السودان.
*الحوثي، المصاب بهوس العظمة:
لا يستطيع "المبعوث الإلهي" الحوثي الإستيلاء على بقية تعز ولا بقية مارب ولا على عدن ولا حضرموت؛
.… وهذا يعني شرذمة اليمن،
١- لا توحيد ولا سحق تمرد
*
السقوط العسكري لمدينة، يُثبت أن لا طرف قادر على "توحيد الدولة"، ولا طرف قادر على "سحق الآخر"، فيُخلق ميزان ضعف متبادل، يفتح الباب أمام التقسيم الواقعي أو الرسمي.
ما يحصل في السودان واليمن متشابهان من هذه الزاوية:
— حميدتي لا يستطيع حكم السودان كله (يفتقر إلى الغطاء الدولي والمؤسسي).
— البرهان لا يستطيع استعادة الغرب (يفتقر إلى الموارد البشرية والسيطرة البرية).
— الحوثي لا يستطيع تجاوز مناطقه الجبلية الثقيلة السكانية إلى بقية اليمن.
— الشرعية لا تستطيع استعادة صنعاء، ولا السيطرة حتى على مناطقها.
وهكذا، كل طرف قد بلغ سقف قوّته، لكن لا أحد بلغ سقف الدولة.
النتيجة الطبيعية: الشرذمة والتقسيم بحكم الأمر الواقع.
٢- الزمن عامل تقسيم صامت
*
كل سنة إضافية من الحصار أو الجمود تعني تعميق الفواصل النفسية والإدارية بين المناطق، حتى دون إعلان رسمي للتقسيم.
٣- انفصال الهوية المعيشية
*
السكان يبدأون بالتفكير بحدود غذائهم وأمنهم لا بحدود وطنهم — هذا التحول في الوعي الجمعي هو أخطر مؤشرات التقسيم.
٤- التحكم الخارجي كعامل تسريع
*
القوى الإقليمية في الحالتين (الإمارات، السعودية، مصر، تشاد…) تدعم أطرافا مختلفة، مما يخلق خطوط تماس إقليمية جديدة تشبه حدود دولية مستقبلية.
٥- غياب القوة المركزية المتفق عليها
*
في السودان، لا جيش وطني موحّد.
في اليمن، لا رئاسة فاعلة.
كلا البلدين بلا “عقل مركزي” قادر على لملمة الجسد المتشظي.
٦- التشابه في النمط الزمني
*
السودان في طريقه إلى التقسيم بعد سنة ونصف من الحرب الشاملة.
اليمن بعد عشر سنوات من الحرب غير الشاملة.
أي أن التقسيم لا يحتاج دوما إلى سرعة، بل إلى استدامة التفكك.
٧- الخطر المقبل
*
في السودان، الانقسام أفقي (شرق–غرب).
في اليمن، الانقسام عمودي (شمال–جنوب–شرق–غرب–وسط).
لكن النتيجة واحدة: تشظي الكيان الوطني إلى كانتونات وظيفية تدور في فلك الجيران.
سؤال ١– من منكم يعتقد أن السودان سوف يتوحد من جديد؟
سؤال ٢– من منكم قد أصبح يخاف من أن اليمن قد فقد نفسه ناهيك عن وحدته؟
**
ثالثا: الصمود والخذلان
**
الفاشر، المدينة السودانية التي صمدت عاما كاملا تحت القصف والجوع والعزلة، انتهت إلى رمز للخذلان، بعدما كانت عنوانا للمقاومة في وجه الحرب والانقسام.
حرب- انقسام- مقاومة- صمود- جوع- عزلة- خذلان- سقوط.
هل نحن نتكلم أيضا عن تعز أم عن الفاشر فقط؟
أجزاء كبيرة من مدينة تعز قد سقطت بيد الحوثيين منذ مارس ٢٠١٥، أي قبل ١٠ سنين.
اللحظة الأخطر في دورة الحروب الداخلية: التحوّل من الصمود إلى الخذلان.
والمقارنة بين الفاشر وتعز في هذا الإطار ليست مجرد تشابه ظاهري، بل تطابق في المراحل النفسية والسياسية والاجتماعية التي تمرّ بها المدن المحاصرة.
١- الصمود والخذلان — الدورة الحتمية للمدينة المحاصرة
— الحصار الطويل لا يُهزم بالمدافع، بل بالزمن.
في البداية، الصمود يكون شعارا جامعا: الفاشر وتعز واجهتا الحصار بالكرامة والرمز الوطني.
— ثم يأتي الخذلان الصامت: المجتمع الإقليمي والدولي يتعب، التحالفات تتبدّل، الخطاب الوطني يخفت، ويبدأ الناس بالبحث عن الخبز بدل المعنى.
— وأخيرا، الخذلان الداخلي: حين يبدأ السكان أنفسهم بالقول: “لم يعد هناك ما يُقاوَم من أجله”، تكون الهزيمة قد تمت قبل سقوط آخر بيت.
٢- الصمود بلا سند يتحوّل إلى عذاب
*
— الصمود فعلٌ بطولي في البداية، لكنه يتحوّل إلى مأساة حين لا يُستثمر سياسيًا أو إنسانيًا.
— الفاشر صمدت سنة، ثم سقطت لأن أحدا لم يأتِ لنجدتها.
— تعز صمدت عشر سنوات، وما زالت في الحصار لأن الحوثي لا يريد أو لا يستطيع أن يفتحها ولا المقاومة ولا الجيش يقبلا بتسليمها.
٣- بقاء الحصار هو الخذلان
*
عانت الفاشر من الخذلان تحت الحصار حتى سقطت في النهاية.
الخذلان الأصغر في تعز، أسقط نصف المدينة والمصانع ومعظم المحافظة منذ أول يوم.
الخذلان الأكبر في تعز،هو خذلان العشر السنين الذي يبقي الحصار لما تبقى وكأن الزمن هو الحاكم الشرعي.
**
رابعا: الحياد في حرب أهلية
**
الظاهرة التي تواجهنا الآن، هي الحياد في قلب الانتهاكات، وهو ما يكشف المرض العميق في البنية السياسية والاجتماعية أثناء الحرب الأهلية.
١- الحياد مع الجنرال حميدتي
*
الجنرال حميدتي، كان دخيلا على الجيش واستعمله الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير بإعطائه رتبة جنرال وأنشأ له قوات خارج الجيش أطلق عليها إسم "قوات التدخل السريع" لإخماد القلاقل في غرب السودان وإعطاء شرعية لمجاميع "الجانجويد" (الجن الذين يركبون الجياد) الذين كانوا يقتلون الرجال والأطفال ويغتصبون النساء ويحرقون البيوت وينهبون الممتلكات.
حميدتي وتجارة الذهب والمرتزقة
*
وكان الجنرال حميدتي، قد أقام علاقات متينة مع دولة الإمارات بإرسال الذهب إلى دبي من مناجم غرب السودان حيث كان يتاجر في بيع الإبل داخليا ومع تشاد وليبيا ومصر، وأيضا بإرسال مقاتلين من "الجنجويد" ليحاربوا بالوكالة عن الإمارات إلى ليبيا واليمن.
بعد سقوط الرئيس البشير
*
كانت هناك عملية سياسية انتقالية، وانقلب فيها الجنرال حميدتي على قائد جيش السودان ورئيس السودان الجنرال البرهان..
الجنرال حميدتي، يمكن توصيفه بسهولة كمتمرد.
القدرة على الوقوف على الحياد داخل حرب أهلية وانتهاكات، تحتاج لوقفة تأمل.
حاكم دارفور كان محايدا في بداية الحرب، ولكن الذي جعله يتحول للمشاركة في الحرب إنما هو وحشية وانتهاكات قوات الجنرال حميدتي المعروفة، وهذا سبب جيد.
لكن الذي يحتاج للتأمل هو الوقوف على الحياد في وسط عملية سياسية انتقالية، تمرد فيها أحد الأطراف على الرئاسة الشرعية التوافقية ويعمل في نفس الوقت لحساب دولة أجنبية.
٢- حياد إقليم دارفور
*
كانت «الدعم السريع» قد أحكمت حصارها على غرب ووسط وشرق وجنوب دارفور، ولم يبقَ سوى شمال دارفور، حيث مدينة الفاشر و الفرقة السادسة مشاة التابعة للجيش.
ووقتها قال مناوي، حاكم إقليم دارفور، والقائد الفعلي للقوة الموالية للجيش التي عرفت باسم «القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح»، إن الحياد تم التوافق عليه بعد ثلاثة أسابيع من الحرب التي اندلعت في ١٥ أبريل ٢٠٢٣، لحصر النزاع بين الجيش و "الدعم السريع" بغرض حماية المدنيين.
٣- انتهاء حياد دارفور بعد سبعة شهور
*
حاكم دارفور، مناوي، كان قد قال:
"أنهم اضطروا لتغيير هذا الموقف بعد ما وصفه باتساع «دائرة الانتهاكات» وارتكاب أعمال ترقى إلى «إبادة جماعية».
وأعلن كل من مناوي وجبريل إبراهيم في ١٦ نوفمبر ٢٠٢٣ رسميا الخروج عن الحياد والانحياز للجيش، وانتقلوا إلى العاصمة المؤقتة بورتسودان.
٣- في تعز وكل اليمن: الحياد مع الحوثي والكانتونات والميليشيات
*
الحوثي، في اليمن، هو أصلا مصنف في مجلس الأمن الدولي كمتمرد انقلب على العملية السياسية الانتقالية.
في تعز، الحياد بين التمرد وبين الشرعية ليس معلن، لكنه قائم — بصورته الأخطر:
الحياد السلبي للنخب، والانقسام العقيم داخل المدينة المحاصرة.
في دارفور، حين أدرك مناوي وجبريل إبراهيم أن ما يجري لم يعد حربا بين جنرالين، بل إبادة منظمة للسكان، اضطرّا لكسر الحياد والانضمام للجيش بعد سبعة أشهر كاملة.
لكن الوقت كان قد فات — فقد أصبحت الفاشر معزولة ومهددة بالسقوط.
٢- الحياد في الحرب الأهلية: رفاهية لا يملكها الضحايا
*
الحياد في الحروب بين الدول قد يُفهم.
أما في الحرب الأهلية، فهو شكل من أشكال المشاركة غير المباشرة في الجريمة.
لأن الصمت على الفظائع، أو انتظار وضوح “المشهد”، يعني ترك الميدان للأقوى — وغالبا ما يكون الأقوى هو الأشد بطشا والأقل التزاما بالقيم.
من هذه الزاوية، يصبح الحياد خيانة ناعمة، يرتكبها من لا يجرؤ على الانحياز للحق أو الرفض للباطل.
٣- في تعز… حياد من نوع آخر
*
ما يجري في تعز اليوم يشبه كثيرا ما جرى في دارفور، ولكن بصيغة أكثر بطئا وتعقيدا:
— نخبها منقسمة في ما بينها، وكل طرف يظن أنه يدافع عن “موقف وطني” أو “مصلحة المدينة”.
— القوى التي تحكمها فعليا تتبادل الاتهامات وتتصارع داخل جدران الحصار.
— والمجتمع المدني والإعلاميون والمثقفون، الذين يفترض أن يكونوا ضمير المدينة، اختار كثير منهم الحياد أو الانشغال بصغائر الخلافات.
النتيجة:
*
تعز، مثل الفاشر، تُستنزف في الوقت بدل الضائع.
والحوثي، مثل حميدتي، لا يحتاج أن ينتصر عسكريا — يكفيه أن يترك خصومه يتنازعون داخل الأسوار حتى ينهكهم الجوع والانقسام.
٤- الحياد في لحظة وطنية انتقالية
*
تماما كما حصل في السودان، فإن الحياد خلال عملية انتقالية، بعد سقوط نظام مستبد، هو أخطر أشكال التواطؤ.
فحين يتمرد طرف مسلّح على الرئاسة الشرعية التوافقية، ويعمل لحساب دولة أجنبية، لا يكون الوقوف على الحياد سوى غطاء للعجز أو للطمع أو للخوف.
في اليمن، هذا السيناريو تكرّر مرارا:
— بين الدولة والحوثي.
— بين الشرعية والمجلس الانتقالي.
— وبين القوى المتنازعة داخل تعز نفسها.
— وبين تعز والكانتونات.
وكل مرة، كان “الحياد” هو الاسم اللطيف لغياب الموقف الأخلاقي والسياسي.
٥. الفكرة الجوهرية في حياد الحرب الأهلية
*
في الحرب الأهلية، الحياد لا يحمي المدنيين بل يسلّمهم للمجرمين.
والمدينة التي تتنازع نخبها داخل الحصار، لا تحتاج إلى عدوٍّ على الأبواب، لأن من هم بداخلها يقومون بالمهمة:
"مهمة الحصار الذاتي".
**
خامسا: الانقسام الداخلي في تعز كأداة حصار ذاتي
**
١- كيف يصبح الانقسام الداخلي “أداة حصار” عمليا؟
*
— التفتت السياسي يقوّض التنسيق في إدارة الإغاثة والتموين وفي شحة مياه الشرب ونقص الخبز وتكدس القمامة ونقص المواد الأساسية داخل المدينة.
— الخلافات بين قوى المقاومة والقيادات المحلية تخلق حواجز إدارية:
تصاريح- نقاط تفتيش- تغاضي عن جبايات وفساد— والتغاضي عن استيلاء المسؤولين على الإيرادات المالية.
— الصراعات على المناصب والامتيازات توجيه الموارد لنخب ضيقة بدل الاحتياجات العامة.
— الانقسام يُضعِف القوة التفاوضية أمام الحكومة وأمام الرئيس وأمام الكانتونات وأمام الخارج (التحالفات والجهات المانحة) فيتراجع الدعم.
— الإعلام والسمعة: الشقّ بين النخب يولّد سرديات متضاربة أمام الرأي العام الدولي والمحلي → انخفاض التضامن والضغط الخارجي.
— الشلل القانوني/المؤسسي: غياب مؤسسة موثوقة تؤمّن الرواتب والخدمات يجعل المدينة سوقًا للصراعات الصغيرة (ابتزاز، جبايات، تحكّم بالموانئ/طرقات).
٢- الانقسام الداخلي: استنزاف وشقاق ونفاق
*
— قيادات محلية/ميدانية لكل فصيل (مصلحة ذاتية قصيرة المدى).
— نخب حزبية/سياسية تتنافس على النفوذ الرمزي (منبر، صوت، تمثيل).
— رجال أعمال/تجار يتحكمون بسلاسل الإمداد وقد يختارون طرفا مقابل حماية مصالحهم.
— منظمات مجتمع مدني وإعلام مستقل — غالبًا مُستنزفة أو مُقسَّمة.
— سكان عاديون يتحوّلون لأساسات ومداميك ضغط اجتماعي عندما تنهار الخدمات.
٣- النتائج المباشرة والمتأخرة (لو استمر الحال)
*
مزيد فوري ومؤجل للبلاوي والمصائب.
مباشرة: تفاقم نقص الغذاء والوقود، ارتفاع أسعار، زيادة الجريمة والنهب.
وسطى: هجرة داخلية (نزوح إلى أحياء أقل استهدافًا) وتآكل النسيج الاجتماعي.
بعيد المدى: في تعز، قد ابتدأت الشتائم والملاعنات حتى بين سكان الأحياء والقرى والمديريات.
يعني أنهم قد أصبحوا يتبلورون إلى كانتونات محلية تابعة لمدن/ وقرى ومديريات أو دول إقليمية — تقسيم فعلي للمحافظات أو أجزاء منها.
**
سادسا: التوقف الذاتي عن التناحر
**
هل يستطيع المتناحرون في تعز و كل اليمن، أن يتوقفوا بالترجي أو التمني أو الطلب أو الأمر والنهي والزجر؟
الإجابة: لا.
لأن تركيبتهم قد أصبحت مبنية على التناحر.
لن يتوقف التناحر ذاتيا، لأن البنية الحالية للنخب في تعز وغيرها تقوم على:
١- تنافس على الشرعية الرمزية
*
(من يمثل المقاومة، من هو الأكثر وطنية، من له حق الكلام باسم المدينة، من هو حامي القيم الأخلاقية العليا).
٢- اعتماد مادي مباشر على أطراف خارجية
*
(رواتب، إكراميات، منح علاجية، دعم، غطاء سياسي)، مما يجعل قراراتهم مرهونة بغيرهم
٣- انعدام الثقة المتبادلة
*
هذه هي النتيجة المتوقعة بعد سنوات من الصراعات الصغيرة والخيانة المتبادلة.
٤- غياب مركز مرجعي موثوق
*
لا يوجد معنا "الرأس الكبير" داخل محافظة تعز ولا داخل المدينة (لا مجلس موحد، ولا شخصية جامعة تُقبل من الجميع).
هذه العوامل تجعل التفاهم الداخلي يحتاج إلى وسيط وضامن — لا إلى “نوايا طيبة” فقط.
من الناحية النفسية والاجتماعية:
*
كل طرف بات يعيش ضمن “منطقة راحته” داخل الانقسام.
بمعنى أن الخصومة صارت جزءا من الهوية، وأي مصالحة تُشعره بالتهديد أو الخسارة.
وهذه الحالة تحتاج إلى هزة خارجية أو ضاغط من خارج الدائرة لتفكيكها.
النتيجة:
*
القوى داخل تعز غير قادرة ذاتيا — في الوقت الحالي — على التوصل إلى وضع آمن للناس.
لكن يمكنها أن تستجيب لضغط أو تحفيز خارجي، إذا توفرت إرادة حقيقية من الخارج.
**
سابعا: التوقيف الخارجي للتناحر
**
١- هل يحتاج أهل تعز للرئيس العليمي، لتوقيف التناحر؟
**
من الناحية النظرية، نعم؛ فهو المرجعية الدستورية، والقائد الأعلى المفترض.
لكن من الناحية الواقعية، العليمي لا يملك أدوات السيطرة أو الردع داخل تعز.
هو يملك “شرعية التوقيع”، لا “شرعية التنفيذ”.
— لا يملك قوة عسكرية مؤثرة هناك.
— لا يملك نفوذا ماليًا مباشرا يمكنه معاقبة أو تحفيز الأطراف.
لا يملك شبكة محلية أو حاضنة اجتماعية داخل تعز.
ما يستطيع فعله — إن أراد — هو منح غطاء سياسي لأي توافق محلي، أو طلب رعاية سعودية/إماراتية له.
أي أن دوره سيكون اعتمادا على دعم خارجي، وليس سلطة ذاتية.
النتيجة:
*
العليمي قد يكون رمزا للتوقيع النهائي على أي اتفاق داخل تعز،
لكنه ليس الفاعل القادر على صُنعه.
٢- هل يحتاج أهل تعز السعودية أو الإمارات لتوقيف التناحر؟
**
السعودية:
*
هي اللاعب الأكثر قدرة على التأثير من حيث النفوذ السياسي والمالي،
لكنها لا تهتم بتفاصيل الوضع في تعز، طالما أنه لا يهدد مناطق نفوذها أو أمن حدودها.
بمعنى آخر، لن تتدخل إلا إذا رأت في وحدة تعز مصلحة أمنية سعودية مباشرة.
أما الآن، فهي تفضّل استقرار الانقسام تحت السيطرة على فوضى غير محسوبة.
الإمارات:
*
لها تأثير داخل القوات الأمنية والعسكرية في بعض المناطق (تعز الغربية والساحل)،
لكنها تنظر إلى تعز كـ”ساحة خصم أيديولوجي” أكثر منها مصلحة استراتيجية.
تدخلها — إذا حدث — سيكون بهدف تطويع القوى المحسوبة على خصومها، لا لإنهاء التناحر كهدف وطني بحد ذاته.
أي أنها قد تُجمّد النزاع مؤقتا، لكنها لن توحّد تعز سياسيا.
النتيجة:
*
القوى داخل تعز لن تتوقف عن التناحر دون ضغط أو رعاية خارجية،
لكن السعودية والإمارات لن تتدخلا إلا إذا اقتنعتا بأن وحدة تعز تخدم مصالحهما —
وهذا غير قائم حاليا.
النتيجة العامة:
التناحر داخل تعز لن يتوقف بقرار محلي ولا برغبة من العليمي،
بل حين يتلاقى ضغط داخلي من الرأي العام مع قرار خارجي يرى في وحدة تعز مصلحة إقليمية،
أو حين تنهك الأطراف جميعا إلى حد العجز، فيقبلون التسوية كخلاص لا كاختيار.
**
ثامنا: الوصول إلى لحظة الإنهاك الجماعي
**
١- هل يمكن أن تصل تعز إلى مرحلة الإنهاك الجماعي؟
*
هل يستطيع الإنهاك الجماعي أن يصل بالناس إلى القبول لأي تسوية حتى ولو كانت هزيمة واستسلام وشرذمة للبلاد؟
الناس، منهكون للغاية وقد تجاوزوا لحظة الإنهاك الجماعي منذ سنين طويلة.
الذي مازال يطلق شرارات التناحر الداخلي، هم الأحزاب والوجاهات المحلية والمتمصلحون.
وهم يحتاجون لتمويل التناحر بتمويل من كانتونات مجاورة أو من دولة خليجية.
والشرارة المعتادة لانطلاق كل موجة تناحر داخلي جديد بألوان جديدة ويافطات جديدة، هو الجنايات والجرائم، التي سببها ضعف أقسام الشرطة وإدارة الأمن ووكلاء النيابة والقضاء.
هذه الجنح والجنايات والجرائم، تتحول بسرعة البرق إلى تناحرات سياسية وعقائدية وفتح ملفات الفساد المالي والإداري الذي هو موجود فعلا ولا يخلو منه أي مكان في تعز أو أي مكان في اليمن أو حتى أي مكان في العالم.
٢- لن يصل المتناحرون إلى نقطة الإنهاك الجماعي.
*
الانتهاكات التي تحدث في تعز، هي مشابهة للانتهاكات والجرائم في كل مكان.
ولكن في تعز، هناك مطابخ تؤجج التناحر وأيضا تشغل المطابخ الدعائية.
**
تاسعا: الخلطة السحرية لحل مشكلة تعز وكل اليمن
**
أنا دائما أكرر، أن الخلطة السحرية لحل مشكلة تعز وكل اليمن، تحتاج الآتي:
١- رخصة القيادة
*
رخصة قيادة الشرعية Driving Licence مثل رخصة قيادة السيارة.
وهذه موجودة عند رئيس الجمهورية.
لكن الرئيس، لا يوجد عنده "مؤسسة رئاسة".
الشرعية الآن أشبه بسائق لديه رخصة قيادة بلا سيارة.
أو سيارة معطلة بدون سائق ولا ميكانيكي يصلحها.
الرئيس يمتلك “التفويض”، لكنه لا يمتلك “الآلية التنفيذية المؤسسية” التي تُمكّنه من تحويل الصلاحيات إلى أفعال.
يجب على الرئيس إنشاء "مؤسسة رئاسة".
{{ إنشاء مؤسسة رئاسة، هي أولوية يجب أن يحصل عليها الرئيس. }}
٢- تفاهم الرئيس مع السعودية
*
السعودية، مهتمة ومهمومة بعوالم أخرى أكثر إلحاحا أو عوالم جديدة تريد أن تركز عليها.
ولم تعد السعودية مهتمة باليمن.
ولا يستطيع الرئيس عمل أي شيئ بدون دعم السعودية.
يجب على الرئيس "استعادة دعم السعودية"
{{ دعم السعودية، هو أولوية يجب أن يحصل عليها الرئيس. }}
٣- ترتيب البيت والسلطة المحلية
*
إذا حصل الرئيس على "مؤسسة رئاسة" وعلى "دعم السعودية"، فإنه يستطيع أن يغير السلطة المحلية أو يحسن أداءها في كل مكان وخاصة تعز.
يجب أن يرتب الرئيس البيت الدخلي في كل مكان.
هذا هو الامتحان الحقيقي.
ترتيب البيت يعني ضبط العلاقة بين السلطة المحلية والجيش والأمن والأحزاب.
— في تعز تحديدا، هذا يعني خلق سلطة محلية فاعلة تُحاسَب وتُموَّل وفق معيار الأداء لا الولاء.
— إعادة الهيكلة من القاعدة إلى القمة ضرورية لتجفيف منابع الفوضى والتناحر.
{{ ترتيب البيت والسلطة المحلية، هي أولوية يجب أن يحصل عليها الرئيس. }}
٤- كسب عقول وقلوب الناس
*
إذا حصل الرئيس على مؤسسة رئاسة، ودعم السعودية، وأحسن ترتيب البيت والسلطات المحلية، فإنه سيحسن أحوال الناس المعيشية ويكسب عقول وقلوب الناس.
الناس اليوم لا يؤمنون بالخطاب والاجتماعات، بل بالأفعال والنتائج.
{{ كسب عقول وقلوب الناس، هي أولوية يجب أن يحصل عليها الرئيس }}
٥- حشد القوى الكامنة للشعب اليمني لتحقيق النصر والاستقرار.
*
إذا حصل الرئيس على العوامل الأربعة السابقة، يمكن لليمن أن تنتصر وتنجو من التفكك والتشرذم وتصل إلى حالة الاستقرار.
القوى الكامنة لليمنيين هائلة، لكنها مبعثرة. تحتاج إلى مركز ثقل سياسي وقيادي، أي رئاسة حقيقية تمارس القيادة لا التمثيل ومجرد الجلوس على كرسي.
خاتمة
*
هكذا يمكن أن تسير المعادلة المطلوبة لليمن.
إنها السلسلة المنطقية التي يمكن أن تعيد لليمن روحه: مؤسسة رئاسة، ثم دعم سعودي، ثم ترتيب البيت، فاستعادة الناس، وصولا إلى النصر.
سلسلة منطقية ومتكاملة، لا تعمل إلا بالترتيب نفسه.
تابع المجهر نت على X